كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وكأنما كانت هذه الخارقة تمهيداً- في السياق- لحادث عيسى الذي انبثقت منه كل الأساطير والشبهات.. وإن هو إلا حلقة من سلسلة في ظواهر المشيئة الطليقة.. فهنا يبدأ في قصة المسيح عليه السلام. وإعداد مريم لتلقي النفخة العلوية بالطهارة والقنوت والعبادة..
{وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين}..
وأي اصطفاء؟! وهو يختارها لتلقي النفخة المباشرة، كما تلقاها أول هذه الخليقة: آدم؟ وعرض هذه الخارقة على البشرية من خلالها وعن طريقها؟ إنه الاصطفاء للأمر المفرد في تاريخ البشرية.. وهو بلا جدال أمر عظيم..
ولكنها- حتى ذلك الحين- لم تكن تعلم ذلك الأمر العظيم!
والإشارة إلى الطهر هنا إشارة ذات مغزى. وذلك لما لابس مولد عيسى- عليه السلام- من شبهات لم يتورع اليهود أن يلصقوها بمريم الطاهرة، معتمدين على أن هذا المولد لا مثال له في عالم الناس فيزعموا أن وراءه سراً لا يشرف.. قبحهم الله!!
وهنا تظهر عظمة هذا الدين؛ ويتبين مصدره عن يقين. فها هو ذا محمد صلى الله عليه وسلم رسول الإسلام الذي يلقى من أهل الكتاب- ومنهم النصارى- ما يلقى من التكذيب والعنت والجدل والشبهات.. ها هو ذا يحدث عن ربه بحقيقة مريم العظيمة وتفضيلها على نساء العالمين بهذا الإطلاق الذي يرفعها إلى أعلى الآفاق. وهو في معرض مناظرة مع القوم الذين يعتزون بمريم، ويتخذون من تعظيمها مبرراً لعدم إيمانهم بمحمد وبالدين الجديد!
أي صدق؟ وآية عظمة؟ وأية دلالة على مصدر هذا الدين، وصدق صاحبه الأمين!
إنه يتلقى الحق من ربه؛ عن مريم وعن عيسى عليه السلام؛ فيعلن هذا الحق، في هذا المجال.. ولو لم يكن رسولاً من الله الحق ما أظهر هذا القول في هذا المجال بحال!
{يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين}..
طاعة وعبادة، وخشوع وركوع، وحياة موصولة بالله تمهيداً للأمر العظيم الخطير.
وعند هذا المقطع من القصة، وقبل الكشف عن الحدث الكبير.. يشير السياق إلى شيء من حكمة مساق القصص.. إنه إثبات الوحي، الذي ينبئ النبي صلى الله عليه وسلم بما لم يكن حاضره من أنباء الغيب، في هذا الأمر:
{ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون}..
وهي إشارة إلى ما كان من تسابق سدنة الهيكل إلى كفالة مريم، حين جاءت بها أمها وليدة إلى الهيكل، وفاء لنذرها وعهدها مع ربها. والنص يشير إلى حادث لم يذكره العهد القديم ولا العهد الجديد المتداولان؛ ولكن لابد أنه كان معروفاً عند الأحبار والرهبان. حادث إلقاء الأقلام.. أقلام سدنة الهيكل.. لمعرفة من تكون مريم من نصيبه. والنص القرآني لا يفصل الحادث- ربما اعتماداً على أنه كان معروفاً لسامعيه، أو لأنه لا يزيد شيئا في أصل الحقيقة التي يريد عرضها على الأجيال القادمة- فلنا أن نفهم أنهم اتفقوا على طريقة خاصة- بواسطة إلقاء الأقلام- لمعرفة من هي من نصيبه، على نحو ما نصنع في القرعة مثلاً. وقد ذكرت بعض الروايات أنهم ألقوا بأقلامهم في نهر الأردن. فجرت مع التيار إلا قلم زكريا فثبت. وكانت هذه هي العلامة بينهم. فسلموا بمريم له.
وكل ذلك من الغيب الذي لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم حاضره، ولم يبلغ إلى علمه. فربما كان من أسرار الهيكل التي لا تفشى ولا تباح للإذاعة بها، فاتخذها القرآن- في مواجهة كبار أهل الكتاب وقتها- دليلاً على وحي من الله لرسوله الصادق. ولم يرد أنهم ردوا هذه الحجة. ولو كانت موضع جدال لجادلوه؛ وهم قد جاءوا للجدال!
والأن نجيء إلى مولد عيسى: العجيبة الكبرى في عرف الناس، والشأن العادي للمشيئة الطليقة:
{إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بأية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ومصدقاً لما بين يدي من التوارة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون.
إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم}..
لقد تأهلت مريم- إذن- بالتطهر والقنوت والعبادة لتلقي هذا الفضل، واستقبال هذا الحدث، وها هي ذي تتلقى- لأول مرة- التبليغ عن طريق الملائكة بالأمر الخطير:
{إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين}..
إنها بشارة كاملة وإفصاح عن الأمر كله. بشارة بكلمة من الله اسمه المسيح عيسى بن مريم.. فالمسيح بدل من الكلمة في العبارة. وهو الكلمة في الحقيقة. فماذا وراء هذا التعبير؟
إن هذه وأمثالها، من أمور الغيب التي لا مجال لمعرفة كنهها على وجه التحديد.. ربما كانت من الذي عناه الله بقوله: {أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله...} إلخ.
ولكن الأمر أيسر من هذا إذا أردنا أن نفهم طبيعة هذه الحقيقة الفهم الذي يصل القلب بالله، وصنعته وقدرته، ومشيئته الطليقة:
لقد شاء الله أن يبدأ الحياة البشرية بخلق آدم من تراب- وسواء كان قد جبله مباشرة من التراب أو جبل السلالة الأولى التي انتهت إليه من تراب، فإن هذا لا يقدم ولا يؤخر في طبيعة السر الذي لا يعلمه إلا الله. سر الحياة التي لابست أول مخلوق حي، أو لابست آدم إن كان خلقه مباشرة من التراب الميت! وهذه كتلك في صنع الله. وليست واحدة منهما بأولى من الأخرى في الوجود والكينونة....
من أين جاءت هذه الحياة؟ وكيف جاءت؟ إنها قطعاً شيء آخر غير التراب وغير سائر المواد الميتة في هذه الأرض.. شيء زائد. وشيء مغاير. وشيء ينشئ آثاراً وظواهر لا توجد أبداً في التراب ولا في مادة ميتة على الإطلاق..
هذا السر من أين جاء؟ إنه لا يكفي أننا لا نعلم لكي ننكر أو نهذر! كما يفعل الماديون في لجاجة صغيرة لا يحترمها عاقل فضلا عن عالم!
نحن لا نعلم. وقد ذهبت سدى جميع المحاولات التي بذلناها- نحن البشر- بوسائلنا المادية لمعرفة مصدرها. أو لإنشائها بأيدينا من الموات!
نحن لا نعلم.. ولكن الله الذي وهب الحياة يعلم.. وهو يقول لنا: إنها نفخة من روحه. وإن الأمر قد تم بكلمة منه. {كن فيكون}..
ما هي هذه النفخة؟ وكيف تنفخ في الموات فينشأ فيه هذا السر اللطيف الخافي على الأفهام؟
ما هي؟ وكيف؟ هذا هو الذي لم يخلق العقل البشري لإدراكه. لأنه ليس من شأنه. إنه لم يوهب القدرة على إدراكه. إن معرفة ماهية الحياة وطريق النفخة لا يجديه شيئاً في وظيفته التي خلقه الله لها- وظيفة الخلافة في الأرض- إنه لن يخلق حياة من موات.
فما قيمة أن يعرف طبيعة الحياة، وماهية النفخة من روح الله، وكيفية اتصالها بآدم أو بأول سلم الحياة الذي سارت فيه السلالة الحية؟
والله- سبحانه- يقول: إن النفخة من روحه في آدم هي التي جعلت له هذا الامتياز والكرامة- حتى على الملائكة- فلابد إذن أن تكون شيئاً آخر غير مجرد الحياة الموهوبة للدود والميكروب! وهذا ما يقودنا إلى اعتبار الإنسان جنساً نشأ نشأة ذاتية، وأن له اعتباراً خاصاً في نظام الكون، ليس لسائر الأحياء!
وعلى أية حال فهذا ليس موضوعنا هنا، إنما هي لمحة في سياق العرض للتحرز من شبهة قد تقوم في نفس القارئ لما عرضناه جدلاً حول نشأة الإنسان!
المهم هنا أن الله يخبرنا عن نشأة سر الحياة؛ وإن لم ندرك طبيعة هذا السر وكيفية نفخه في الموات..
وقد شاء الله- بعد نشأة آدم نشأة ذاتية مباشرة- أن يجعل لإعادة النشأة الإنسانية طريقاً معيناً. طريق التقاء ذكر وأنثى. واجتماع بويضة وخلية تذكير. فيتم الإخصاب، ويتم الإنسال. والبويضة حية غير ميتة والخلية حية كذلك متحركة.
ومضى مألوف الناس على هذه القاعدة.. حتى شاء الله أن يخرق هذه القاعدة المختارة في فرد من بني الإنسان. فينشئه نشأة قريبة وشبيهة بالنشأة الأولى. وإن لم تكن مثلها تماماً. أنثى فقط. تتلقى النفخة التي تنشئ الحياة ابتداء. فتنشأ فيها الحياة!
أهذه النفخة هي الكلمة؟ آلكلمة هي توجه الإرادة؟ آلكلمة: كن التي قد تكون حقيقة وقد تكون كناية عن توجه الإرادة؟ والكلمة هي عيسى، أو هي التي منها كينونته؟
كل هذه بحوث لا طائل وراءها إلا الشبهات.. وخلاصتها هي تلك: أن الله شاء أن ينشئ حياة على غير مثال. فأنشأها وفق إرادته الطليقة التي تنشئ الحياة بنفخة من روح الله. ندرك آثارها، ونجهل ماهيتها. ويجب أن نجهلها. لأنها لا تزيد مقدرتنا على الاضطلاع بوظيفة الخلافة في الأرض، ما دام إنشاء الحياة ليس داخلاً في تكليف الاستخلاف!
والأمر هكذا سهل الإدراك. ووقوعه لا يثير الشبهات!
وهكذا بشرت الملائكة مريم بكلمة من الله اسمه المسيح عيسى بن مريم.. فتضمنت البشارة نوعه، وتضمنت اسمه ونسبه. وظهر من هذا النسب أن مرجعه إلى أمه.. ثم تضمنت البشارة كذلك صفته ومكانه من ربه: {وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين}.. كما تضمنت ظاهرة معجزة تصاحب مولده {ويكلم الناس في المهد}.. ولمحة من مستقبله: {وكهلاً}.. وسمته والموكب الذي ينتسب إليه: {ومن الصالحين}..
فأما مريم الفتاة الطاهرة العذراء المقيدة بمألوف البشر في الحياة، فقد تلقت البشارة كما يمكن أن تتلقاها فتاة. واتجهت إلى ربها تناجيه وتتطلع إلى كشف هذا اللغز الذي يحير عقل الإنسان:
{قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر}.
وجاءها الجواب، يردها إلى الحقيقة البسيطة التي يغفل عنها البشر لطول الفتهم للأسباب والمسببات الظاهرة لعلمهم القليل، ومألوفهم المحدود:
{قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون}..
وحين يرد الأمر إلى هذه الحقيقة الأولية يذهب العجب، وتزول الحيرة، ويطمئن القلب؛ ويعود الإنسان على نفسه يسألها في عجب: كيف عجبت من هذا الأمر الفطري الواضح القريب!!
وهكذا كان القرآن ينشئ التصور الإسلامي لهذه الحقائق الكبيرة بمثل هذا اليسر الفطري القريب. وهكذا كان يجلو الشبهات التي تعقدها الفلسفات المعقدة، ويقر الأمر في القلوب وفي العقول سواء..
ثم يتابع الملك البشارة لمريم عن هذا الخلق الذي اختارها الله لإنجابه على غير مثال؛ وكيف ستمضي سيرته في بني إسرائيل.. وهنا تمتزج البشارة لمريم بمقبل تاريخ المسيح، ويلتقيان في سياق واحد، كأنما يقعان اللحظة، على طريقة القرآن:
{ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل}..
والكتاب قد يكون المراد به الكتابة؛ وقد يكون هو التوراة والإنجيل، ويكون عطفهما على الكتاب هو عطف بيان. والحكمة حالة في النفس يتأتي معها وضع الأمور في مواضعها، وإدراك الصواب واتباعه. وهي خير كثير. والتوراة كانت كتاب عيسى كالإنجيل. فهي أساس الدين الذي جاء به. والإنجيل تكملة وإحياء لروح التوراة، ولروح الدين التي طمست في قلوب بني إسرائيل. وهذا ما يخطئ الكثيرون من المتحدثين عن المسيحية فيه فيغفلون التوراة، وهي قاعدة دين المسيح- عليه السلام- وفيها الشريعة التي يقوم عليها نظام المجتمع؛ ولم يعدل فيها الإنجيل إلا القليل. أما الإنجيل فهو نفخة إحياء وتجديد لروح الدين، وتهذيب لضمير الإنسان بوصله مباشرة بالله من وراء النصوص. هذا الإحياء وهذا التهذيب اللذان جاء المسيح وجاهد لهما حتى مكروا به كما سيجيء.
{ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين}..
ويفيد هذا النص أن رسالة عيسى- عليه السلام- كانت لبني إسرائيل، فهو أحد أنبيائهم. ومن ثم كانت التوراة التي نزلت على موسى- عليه السلام- وفيها الشريعة المنظمة لحياة الجماعة الإسرائيلية، والمتضمنة لقوانين التعامل والتنظيم، هي كتاب عيسى كذلك، مضافاً إليها الإنجيل الذي يتضمن إحياء الروح وتهذيب القلب وإيقاظ الضمير.
والآية التي بشر الله أمه مريم أنها ستكون معه، والتي واجه بها بالفعل بني إسرائيل هي معجزة النفخ في الموات فيدخله سر الحياة، وإحياء الموتى من الناس، وإبراء المولود الأعمى، وشفاء الأبرص، والإخبار بالغيب- بالنسبة له- وهو المدخر من الطعام وغيره في بيوت بني إسرائيل، وهو بعيد عن رؤيته بعينه.
وحرص النص على أن يذكر على لسان المسيح- عليه السلام- كما هو مقدر في غيب الله عند البشارة لمريم، وكما تحقق بعد ذلك على لسان عيسى- أن كل خارقة من هذه الخوارق التي جاءهم بها، إنما جاءهم بها من عند الله. وذكر إذن الله بعد كل واحدة منها تفصيلاً وتحديدا؛ ولم يدع القول يتم ليذكر في نهايته إذن الله زيادة في الاحتياط!
وهذه المعجزات في عمومها تتعلق بإنشاء الحياة أو ردها، أو رد العافية وهي فرع عن الحياة. ورؤية غيب بعيد عن مدى الرؤية.. وهي في صميمها تتسق مع مولد عيسى؛ ومنحه الوجود والحياة على غير مثال إلا مثال آدم- عليه السلام- وإذا كان الله قادراً أن يجري هذه المعجزات على يد واحد من خلقه، فهو قادر على خلق ذلك الواحد من غير مثال.. ولا حاجة إذن لكل الشبهات والأساطير التي نشأت عن هذا المولد الخاص متى رُد الأمر إلى مشيئة الله الطليقة ولم يقيد الإنسانُ اللهَ- سبحانه- بمألوف الإنسان!